من كتاب ( الكمالات المحمدية )
لفضيلة الشيخ فوزى محمد أبوزيد
ينبغي أن نبين للناس معنى تلك الحياة وإنها حياة برزخية وإنها ليست كحياتنا هذه
بل هي حياة خاصة لائقة بهم وبالعالم الذي هم فيه
لكن لا بد أن نبين لهم أيضا أنها ليست كحياتنا لان حياتنا اقل وأحقر
وأضيق واضعف فالإنسان فيها بين عبادة وعادة وطاعة ومعصية
وواجبات مختلفة لنفسه وأهله ولربه وانه تارة يكون طاهرا وتارة يكون على ضد ذلك ,
تارة يكون في المسجد وتارة يكون في الحمام وانه لا يدرى بما يُختم له .
فقد يكون بينه وبين الجنة ذراع ثم ينقلب الأمر رأسا على عقب فيصير من أهل النار
وبالنقيض أما في البرزخ فانه إن كان من أهل الإيمان فإنه قد جاوز قنطرة الامتحان
التي لا يثبت عندها إلا أهل السعادة .
ثم انه قد انقطع عنه التكليف وأصبح روحا مشرقة طاهرة مفكرة سياحة سباحة
جوالة في ملكوت الله وملكه سبحانه وتعالى لا هم ولا حزن ولا بأس
ولا قلق لأنه لا دنيا ولا عقار ولا ذهب ولا فضة فلا حسد ولا بغى ولا حقد .
وان كان غير ذلك ففي نقيض ذلك .
وللأنبياء عليهم الصلاة والسلام في البرزخ خصائص انفردوا بها دون غيرهم
من البشر ولو شاركهم غيرهم في بعضها فهو على وجه الإلحاق النسبي
وتبقى الخصوصية للأنبياء من جهتين .
الأولى : من جهة الأصالة
الثانية : من جهة الكمال
وذكرنا فيما تقدم أن الحياة البرزخية حياة حقيقية وان الميت يسمع
ويحس ويعرف سواء أكان مؤمنا أم كان كافرا وان الحياة والرزق
ودخول الأرواح الجنة ليس مختصا بالشهيد كما دلت على ذلك
النصوص الثابتة . وهذا هو الصحيح الذي عليه الأئمة
وجماهير أهل السنة ومن هنا فإن القول بحياة الأنبياء من فضول القول
وهو أمر ظاهر كالشمس لا يحتاج إلى إثبات
بل إن الصواب هو أن نُقرر أن حياتهم أكمل واجل
وأتم وأعظم وهكذا حياة الناس على ظهر الأرض في الدنيا
فإنها درجات ومقامات ومراتب متفاوتة .
فمنهم أموات في صورة أحياء قال فيهم المولى جل شأنه
({لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا
وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ
أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ }الأعراف179ومنهم الذين قال فيهم
{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }يونس62
ومنهم من قال فيهم {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ } إلى قوله
{أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ }المؤمنون 10 ومنهم من قال فيهم
(إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ{16} كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ
{17} وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ{18} الذاريات
وهكذا الحياة البرزخية درجات ومراتب ومقامات متفاوتة
{وَمَن كَانَ فِي هَـذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً }
الإسراء72 أما الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإن حياتهم ورزقهم
ومعرفتهم وسماعهم وإدراكهم وشعورهم وإحساسهم أكمل وأتم
وارفع من غيرهم والدليل هو قوله تعالى في حق الشهداء
{وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ
يُرْزَقُونَ }آل عمران169 وإذا كانت الحياة معناها هو بقاء الروح
فلا تفنى ولا تبلى فلا مزية للشهيد يستحق أن تُذكر وتشهر
إذ أرواح جميع بني ادم باقية لا تفنى ولا تبلى
وهو الصواب الذي عليه المحققون من أهل العلم
كما حققه الشيخ ابن القيم في كتاب الروح
فلابد من وجود مزية ظاهرة يزيد بها الشهداء على من سواهم
وإلا كان ذكر حياتهم عبثا لا فائدة منه
خصوصا وان الله تعالى نهى أن نقول عنهم أموات
فقال {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء
وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ }البقرة154
وحينئذ نقول انه لا بد أن تكون حياتهم أكمل من غيرهم
واشرف وهذا ما يؤيده ظاهر النصوص فأرواحهم مرزوقة
ترد انهار الجنة وتأكل ثمارها كما قال تعالى :
(عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ) ثم إحساسهم بذلك الطعام والشراب والنعيم
إحساس كامل بشعور تام وتلذذ تام وتمتع حقيقي
كما جاء في الحديث : فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم
وحسن مقيلهم قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا
( قال ابن كثير رواه احمد) وأرواحهم لها تصرف اكبر من غيرها
وأوسع فهي تتجول وتسرح في الجنة حيث تشاء ثم تأوي
إلى قناديل تحت العرش (كذا في الصحيح) وهم يسمعون الكلام
ويفهمون الخطاب فقد جاء في الصحيح أن الله تعالى يقول لهم ما
تشتهون ؟ فيقولون كذا وكذا ويعود السؤال ويعود الجواب .
ثم يطلبون أن يعودوا إلى الدنيا للجهاد
ثم يطلبون أن يُبلغ الله عنهم رسالة منهم إلى إخوانهم بالدنيا
فيها بيان ما أكرمهم الله به فيقول الله : أنا ابلغ عنكم .
فإذا ثبت هذا في حق الشهداء ثبت في حق الأنبياء من وجهين :
الأول : أن هذه رتبة شريفة أعطيت للشهيد كرامة له
ولا رتبة أعلى من رتبة الأنبياء .
ولا شك أن حال الأنبياء أعلى وأكمل من حال جميع الشهداء .
فيستحيل أن يحصل كمال للشهداء ولا يحصل للأنبياء
لا سيما أن هذا الكمال الذي يوجب زيادة القربى
والزلفى والنعيم والأنس بالعلي الأعلى
.
الثاني : أن هذه الرتبة حصلت للشهيد أجرا على جهادهم
وبذلهم أنفسهم لله تعالى . والنبي هو الذي سن لنا ذلك
ودعانا إليه وهدانا له بإذن الله تعالى وتوفيقه
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ( من سن سنة حسنة فله
أجرها واجر من عمل بها إلى يوم القيامة )
وقال أيضا ( من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من يتبعه
لا ينقصه ذلك من أجورهم شيئا , ومن دعا إلى ضلالة
كان عليه من الإثم مثل آثام من يتبعه لا ينقصه ذلك من آثامهم شيئا )
والأحاديث الصحيحة في ذلك كثيرة مشهورة فكل اجر حصل للشهيد
حصل للنبي صلى الله عليه وسلم لسعيه مثله والحياة اجر فيحصل
للنبي صلى الله عليه وسلم مثلها