معاشر الأحبة المسلمين: من ساعده التوفيق، ونظر بنور البصيرة، تأمل معاني هذه السورة العظيمة، ووقف على أسرارها وما اشتملت عليه من أُمهات المطالب العالية، ودقائق التوجيهات السامية، والحكم والأحكام.
أول السورة رحمة، وأوسطها هداية، وآخرها نعمة، وحظ العبد من النعمة على قدر حظه من الهداية، وحظه من الهداية على قدر حظه من الرحمة، فعاد الأمر كله إلى نعمة الله ورحمته وفضله وهدايته، فمن حقق معاني سورة الفاتحة عِلماً ومعرفةً وعملاً وحالاً فقد فاز من الكمال بأوفر نصيب، وصارت عبوديته مع التوفيق والإخلاص عبودية الذين ارتفعت درجتهم إلى مراتب الكمال والإصابة.
مدلول البسملة والحمدلة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:1] الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [الفاتحة:2] الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ [الفاتحة:3] أدب الله هذه الأمة فعلَّمها الابتداء بذكر أسمائه الحسنى، وحمده على آلائه العظمى، أمام كل ذي بالٍ من أفعالهم وأقوالهم، وقبل المهم من شئونهم وحاجاتهم، وجعل ذلك سنة يستنون بها وسبيلاً ينتهجونها، فباسمه وحمده افتتاح كلامهم، وصدور رسائلهم، وكتبهم وحاجاتهم، والحمد أوسع الصفات، وأعم المدائح، وجميع أسماء ربنا حمد، وكل صفاته حمد، وأفعاله حمد، وأحكامه حمد، وعدله حمد، ورحمته حمد، وفضله حمد، وإحسانه حمد، وكل صفة عليا واسمٍ حسن وثناءٍ جميل فلربنا جل وعلا أحسنه وأعلاه وأجمله، وكل حمدٍ ومدحٍ وتسبيح وتنزيهٍ وتقديسٍ وجلالٍ وإكرام فلربنا عز وتبارك أكمله وأتمه وأدومه، وهو رب العالمين المالك المتصرف في الخلائق أجمعين، وكل ما سوى الله عالمَ.
أعلى الصفحة
(مالك يوم الدين)
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ [الفاتحة:4]
الملك والحمد في حق ربنا متلازمان، فكل ما شمله ملكه وقدرته شمله حمده وتمجيده، فهو سبحانه محمودٌ في ملكه، وله الحمد والقدرة مع حمده وثنائه، ويوم الدين يوم الجزاء والحساب، وقد تفرد الرب سبحانه بالحكم بين العباد.. لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ * الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ [غافر:16-17].
أعلى الصفحة
لزوم العبادة والاستعانة
ثم قال تعالى: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5].
إقرارٌ من العبد وإعلانٌ والتزام بإفراد الله بالعبادة والتوحيد، والبراءة من الشرك وأهله، دقيقه وجليله، وإعلانٌ والتزامٌ بالاعتماد عليه، وتفويض جميع الأمور إليه، فله سبحانه نخشع ونذل ونستكين، إعلانٌ بما صدع به الإسلام من تحرير الأنفس لله، وتخليصها لعبادته وحده لا شريك له، فلا يشرك معه أحد، لا في ربوبيته وألوهيته، ولا في محبته وخوفه، ولا في رجائه والتوكل عليه، فالخضوع والتذلل والتعظيم والسجود والتقرب كل ذلك له وحده فاطر السماوات لا إله إلا هو.
( إِيَّاكَ نَعْبُدُ ) تجمع الديانة والشريعة، ( وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ) تجمع الإخلاص والتوكل والتفويض، قال بعض أهل العلم: " من أقر بـ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] وحققها فقد برأ من الجبر والقدر ".
وقال بعض السلف : "الفاتحة سر القرآن" وسر الفاتحة إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ [الفاتحة:5] فالأولى تبرؤ من الشرك، والثانية تبرؤ من الحول والقوة مع التفويض إليه سبحانه، على حد قوله سبحانه في الآية الأخرى: فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ [هود:123]، وقوله سبحانه: رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً [المزمل:9].
أعلى الصفحة
طلب العبد الهداية والتوفيق
ثم قال تعالى: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ [الفاتحة:6].
الهداية إلى الصراط المستقيم من أجل المطالب، ونيل ذلك أشرف المواهب، وتحصيله أنجح الرغائب، فقد علَّم الله عباده كيف يسألونه، فأمرهم أن يقدموا بين يديه حمده وثناءه وتمجيده، والإقرار بتوحيده، والخضوع له، فهاتان وسيلتان إلى مطلوبهم، توسلٌ إليه بأسمائه وصفاته.. وتوسلٌ إليه بعبوديته، وهما وسيلتان لا يكاد يرد معهما دعاء، فنصف السورة الأول: مجمع الحمد والثناء، ونصفها الثاني: مجمع الحاجات والمطلوبات، فأمرنا سبحانه أن نسأله هداية الصراط المستقيم كل يومٍ وليلة، في صلواتنا الفرائض منها والنوافل، بل في كل ركعةٍ من صلواتنا، فالعبد محتاج إلى معرفة الحق في كل حركة ظاهرة وباطنة، ثم إذا عُرِفَ الحق فهو بحاجةٍ إلى معرفة من يلهمه قصد الحق فيخلص لذلك من قلبه، ثم هو محتاجٌ إلى أن يكون قادراً على فعل الحق، ومن عرف هذه المراتب أدرك أنه محتاجٌ إلى هدايةٍ متجددة في كل وقت، ولهذا فإننا نكرر هذا الطلب والدعاء في كل صلاة وفي كل ركعة.
إنه سبيل السعادة والاستقامة على الصراط المستقيم، ولن تكون الاستقامة إلا بالهداية من الله سبحانه؛ فمن لم يجعله ربه عالماً بالحق لم يكن له سبيل إلى الاهتداء، ومن أجاب الله دعاءه أوقفه على الهداية بمراتبها من العلم والقدرة والتوفيق والتثبيت وصرف الموانع والعوارض؛ فيتبين له الرشد من الغي، وطريق المنعم عليهم وطريق ضدهم، فالصراط المستقيم واحد، عليه جميع أنبياء الله ورسله وأتباعهم من الذين أنعم الله عليهم من الصديقين والشهداء الصالحين، ذلكم: وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ [الأنعام:153].
أعلى الصفحة
المنحرفون عن الصراط المستقيم
ثم قال تعالى: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7].
هذا بيانٌ لطرفي الانحراف عن الصراط الحق المستقيم، فأحدهما طريق أهل الغضب الذين عدلوا عن الحق قصداً وعناداً، فعندهم فساد في القصد والعمل، والثاني طريق أهل الضلال الذين عدلوا عنه جهلاً وضلالاً، فعندهم فساد في العلم والاعتقاد، فالعالم بالحق المتبع لهواه من المغضوب عليهم، والجاهل بالحق من الضالين، فالمغضوب عليهم ضد المرحومين، والضالون ضد المهتدين.
واليهود أنموذج للمغضوب عليهم؛ لأنهم ممن عرف الحق واستبان له؛ فكفر به وجحده، يقول سبحانه: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ [البقرة:90]، وقال سبحانه: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ [المائدة:60].
والنصارى أنموذج لأهل الضلال، يقول سبحانه: قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيراً وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ [المائدة:77].
وفي الترمذي و صحيح ابن حبان من حديث عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: {اليهود مغضوبٌ عليهم، والنصارى ضالون } قال الترمذي : حسنٌ غريب.
أيها المسلمون: وكل عبدٍ محتاج دائماً إلى هذا الدعاء: اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:6-7] فإنه لا نجاة في الدارين إلا بهذه الهداية، ولا وصول إلى السعادة في الحياتين إلا في ذلك، ومن فاته الهدى فهو إما من المغضوب عليهم وإما من الضالين، فالصراط المستقيم يجمع أحوال الإنسان كلها من العقائد والعبادات والمعاملات والآداب.
قال الله: صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ [الفاتحة:7] من الأفراد الأتقياء، والأمم الفاضلة الذين بهم الاقتداء والتأسي غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ [الفاتحة:7] يجمع أحوال أهل الفساد والأهواء أفراداً وجماعاتٍ، وأحزاباً وطوائف؛ لاجتناب طريقهم والحذر من مسالكهم.
وبعد يا عبد الله! فلا جرم! فقد حصل من معاني هذه السورة العظيمة أم القرآن علمٌ إجمالي بما حواه القرآن الكريم من المقاصد والمعاني والأغراض، فلا غرو أن تكون فاتحة الكتاب وأم القرآن والسبع المثاني.
رزقنا الله حسن تلاوة كتابه والعمل به، وجعلنا من أهل القرآن الذين هم أهل الله وخاصته.
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ * وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ [الحجر:85-87].
نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي محمدٍ صلى الله عليه وسلم.. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئة، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
منقول